جديع بن قبلان من شيوخ قبيلة عنزة كما يحكى عنه . . . الهم أن بطل قصتنا شاب قيل أن أباه من شيوخ البادية , هذا الشاب أحب فتاة من عرب جديع بن قبلان فوقف أبوها بينها وبينه بعد أن تقدم لخطبتها لسبب أو لآخر . . . ولم يستطع الشاب الابتعاد عنها بعد أن رحلت قبيلته إلى مرابعها بعد أن كانوا يجتمعون بالصيف حول موارد المياه . . . الشاب بعد أن رحلت قبيلته تركها وعاد إلى منازل قبيلة جديع بن قبلان والتجأ إلى عجوز بالقبيلة أعطاها مالاً مما معه , وأودع عندها فرسه وملابسه وأحضرت له ملابس رثه فتنكر بها وقصد مجلس جديع بن قبلان مادحاً . . . فأراد جديع أن يعطيه , فرفض فسأله جديع عن مطلبه فقال أريد أن أعمل عندك مقابل أكلي وشربي ومبيتي . . . فعرض عليه عدة مهن فرفضها وسأله عن طبعة العمل التي تناسبه فقال أصنع القهوة . . . فضمه عاملا للقهوة , واستمر في خدمته . . . فكان إذا مضى جزء من الليل ونام جديع ومن معه سحب نفسه بهدوء حتى يقترب من بيت محبوبته فيكمن ويعوي كعواء الذيب فتعرفه وتضع طرف عباءتها على النار وترفعها كإشارة له فيقترب ويجلس معها يتحدث حتى بزوغ الفجر فيعود لبيت جديع وينام . . . وهكذا
وفي أحد الأيام فطنت له زوجت جديع , فقالت لزوجها أن المقهوي ((أي عامل القهوة)) يقوم معكم للعشاء ولكنه يمد يده ولا يرفعها لفمه , وإذا نام الجميع سحب نفسه باتجاه بيت فلان و يعود مع الفجر . . . فتعجب جديع من صنيعه ومن فطنة زوجته أيضاً حيث أنهم لم يلاحظوا أكله ولاحظته المرأة . . . ولما كانت الليلة التالية انتبه له جديع فإذا كلامها صحيح , ولما نام الجميع أخذ جديع يراقبه . . . فلما سرى الشاب سرى خلفه حتى إذا ما دخل بيت الفتاة جلس بالقرب منها وقد كان الظلام دامساً فلم يرياه . . . وكان بينهما وبينه رواق بيت الشعر فجلسا باتجاه بعضهما ولم يلمس كل منهما الآخر , وأحضرت له طعام العشاء كالعادة فأكل ولما فرغ أكلت هي , ثم جلسا يتحدثان يشكو كل منهما للآخر فرط الهيام . . . فسرد عليها قصته وكيف تنكر وأصبح عاملاً بعد أن كان أميراً من أجلها , وجديع يسمع . . . وكان الشاب يحمل معه عصا صغيرة فقال لها إلمسي طرف العصا وسوف ألمس الطرف الآخر , ولأن حبهما عذري رفضت الفتاة لمس طرف العصا . . . فقال لها إذا استمرت الحال على ما هي عليه فإني هالك لا محالة , فقالت إن هلكت فلا حاجة لي بالدنيا بعدك . . . ولكن عليك بجديع بن قبلان فلن يحل مشكلتنا غيره هو الذي يدركني لك بأحد الأحمرين , وهي تقصد أحمر الذهب أو أحمر الدم , فقال لها في هذا الصباح سوف أخبره . . . هذا كله وجديع يستمع لهما . . . ولما اقترب الفجر توادعا وعاد كل منهما إلى مكانه , وعاد جديع لمكانه فإذا زوجته تنتظره لتستفسر عن الخبر . . . فأخبرها بالحكاية وأخبرها أيضاً عن عزمه على تزويجهما لبعضهما بأحد الأحمرين كما قالت , وبينما هما يتحدثان كان الشاب قد عاد لمكانه وأمسك الربابة وأنشد يقول
يا راكب اللي تودع العبـد قربـي
جدعتيـن تدنـي بعيـد السرابـي
اليا ارتخت ذرعانها عقـب كربـي
حمص وحلب أدنى منازل أقرابـي
يا جديع بن قبلان خان الدهر بـي
خانت لياليهـا مـه أيامهـا بـي
طير الهوى يا ستر موضى شهربي
يـم الثريـا والكواكـب رقـابـي
يهوم بي يا جديع شرقن وغربـي
والله علم يـم الشمـال انتحابـي
وبادق من سلك العنكبوت انحدر بي
ليما على نقرة حضوضا رمى بـي
شوك عاقـول وحلفنـا بـدر بـي
تغطلست دنيـاي والنـور غابـي
مالي صديقن يفتهـم كـود قلبـي
لا قلت له هـات التماثيـل جابـي
ول يـا غريـن بالمحبـة كفربـي
لا هو بذابحني ولا أشفى صوابـي
ناح الحمام وجر الألحـان طربـي
وطـوح عنـاه بعاليـات النوابـي
وكظمت بالأنياب ممـا استقربـي
ليما غطس في شفتي راس نابـي
جابوا طبيب درابـي وافتكـر بـي
ولا ظنتي غيـر الشهـادة لقابـي
اختتم الشاب قصيدته ونام في مكانه . . . وجديع وزوجته يستمعان له ولم ينم جديع بانتظار الصباح
ولما كان الصباح لم يوقظ جديع الشاب كالعادة لصنع القهوة فتركه يشبع من النوم , وعمل هو القهوة بنفسه , وأرسل في طلب والد الفتاة , ولما حضر واجتمع المجلس عند جديع أمر أحد الموجودين أن يوقظ الشاب . . . ولكن الشاب لم يتحرك فقام له جديع وقلبه فإذا هو جثه هامدة . . . فقد أسلم الروح بعد نهاية قصيدته تأكيداً لآخر بيت فيها . . . عض جديع على ناجده وتذكر كلامهما ليلة البارحة . . . فأرسل أحد خدامه إلى بيت الفتاة يطلب منهم الفأس وكان البدو نادراً ما يستعملونه فقال إذا سألوك لماذا أخبرهم أن مقهوينا توفي وهو يقصد إخبار الفتاة . . . وما هي إلا لحظات حتى جاءت الفتاة تركض وقد شقت جيبها ناسيةً الحياء . . . فأمر جديع الناس أن يبتعدوا عن جثة الشاب ليفسحوا لها المجال , فلما رأته وقعت فوقه جثة هامدة هي أيضاً . . . فأمر جديع بدفنهما بقبر واحد لأنه لم يستطع جمعهما وهما حيَّان فجمعهما بالقبر وسمي هذا القبر ((قبر الخدنا)) .